submitted on 2024-12-15, 09:31 and posted on 2024-12-26, 06:42authored byAbdul Rafea Mohsen
شغل سؤال المنهج دراسات الأديان في مراحل تاريخها ومختلف عصورها وفي مواضع ظهورها وخطط انتشارها، ويتصدر هذا السؤال في المداخل الرئيسية والاصطلاحات الأولى لهذه الدراسات، حتى العناوين الرئيسية مثل "علم الأديان" و"الدراسة العلمية للدين" تبطن في شروحها دلائل الجدل والتردد والحيرة بشأن هذا السؤال.وقد عرف الباحثون أن ما يغلق سبل البحث ويعقد طرقه ومناهجه دقة وحدةِ الدراسة أو عظمها، وهذا ما يجتمع في العناصر الجوهرية في بنية الدين، مثل المقدس والغيبي والروحي والخفي، فالدين في التجربة الروحية والشخصية مليء بالأسرار والمجازات، مما يحير الباحث بشأن المنهج، فكيف يخوض في هذه اللطائف والدقائق ويطبق عليها المعايير والأقيسة؟ وكيف يمكن أن نحكّم الأصول الجامعة في التجارب الخاصة التي لا تتألق ولا تتصاعد إلا متوارية مستخفية؟أضف إلى أسرار الذات دقائق اللغات، فالكتب المقدسة مستودع التجارب الروحية مكتوبة بلغات عتيقة مشحونة بالإشارات والرموز ذات الدلالات الثقافية الناطقة والمضمرة، تحتشد فيها تجارب الأمم وخصائص شخصيتها، فكيف يمكن اختراق الحواجز والأطر اللغوية بما تحمله من مخزون تاريخي واجتماعي وثقافي لاستكشاف لغة المقدس وعرضه في مقارنة عادلة؟طُرح سؤال المنهج بصيغ متعددة في دراسات الأديان، فصيغته عند العامري والبيروني والقاضي عبد الجبار غير صيغته عند إسبينوزا ودوركايم وماكس مولر.أما الإمام أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الأندلسي (384-456 هـ) فجمع سؤال المنهج عنده ما تفرق، فقد شحذ ذهنا حادا للبحث عن الأصول الجامعة والمعايير العالمية، وألح على هذا السؤال وأخذ يسبر أغواره ويتابع أسراره بخطة علمية مقصودة، استعلنها في بدايات كتابه "الإحكام في أصول الأحكام" إذ بيّن الصلة بين مصنفاته التي استودعها مشروعه الفكري في دراسة الأديان، وهي "التقريب لحد المنطق" حيث حرر الأصول الجامعة، و"الفصل في الملل والأهواء والنحل" الذي درس فيه الفكر الديني العالمي، و"الإحكام في أصول الأحكام" حين راجع مناهج البحث عند علماء الإسلام. ثم طبق رؤيته ونشر بدائله في موسوعته الفقهية "المحلى بالآثار".تأسيسا على نص في مفتتح "الإحكام في أصول الأحكام" يقدم هذا البحث تفسيرا للصلة بين هذا المشروع المحرر والأثر الكبير لابن حزم في الفكر الديني المسيحي والإسلامي.ويثبت البحث بمنهج التحليل والمقارنة أن دراسة ابن حزم للفكر المسيحي بمعايير المنهج التي حررها أحدثت تأثيرا كبيرا وتحولا خطيرا في الدراسات الإسلامية للديانة المسيحية، وأن تاريخ هذه الدراسات يقف عند ثلاثة مصنفات؛ فعلي بن ربن الطبري (162-237 هـ) هو من أسس هذه الدراسات، وابن حزم انطلق بها في آفاق العالمية، ورحمة الله الهندي (1233-1308 هـ) جمع ميراث الشرق والغرب وقدم حصادا لمئات السنين وجمع طرفي المقارنة.خصص الفصل الأول لتتبع مراحل تطور هذه الدراسات قبل ابن حزم، فجمع ما وصل إلينا من آثار ثلاثة قرون منها، وصنفها في مدارس وبيّن خصائص كل مدرسة في مصادرها ومناهجها النظرية، وطرقها في تطبيق هذه المناهج على وحدة الدراسة، وقد رصد هذا الفصل تطور المناهج وأدواتها بالتراكم حتى بلغت الدراسات أوجها عند القاضي عبد الجبار (359-415 هـ)، وقد تأكد أن هذا الاستكشاف هو التمهيد الضروري للجواب عن سؤال خطير في البحث وهو: ماذا أضاف ابن حزم في الدراسات الإسلامية للديانة المسيحية؟ وماذا طور من مناهجها؟وفي الفصل الثاني تتبع البحث مواضع دراسة ابن حزم للمسيحية، وأثبت أنها تعدل دراسته لجميع الأديان حاشا الإسلام، ورصد البحث مظاهر التطوير في المداخل والمسائل والمعايير والمناهج، وبني على المقارنة في كل مسألة بين ما ورثه ابن حزم وما أضافه، من أجل تحرير الجواب ببراهين علمية يمكن مراجعتها وقياس مدى دقتها.وقد رصد البحث الأصول النظرية التي حررها وكررها ابن حزم بهدف مقارنتها بالتطبيقات والإجراءات، واستخلص أن أبا محمد حرص على تناسق المنهج وكان واعيا بمظان التناقض والتردد، ولكن في مواطن لم يكن التطابق بين النظرية والإجراءات كاملا.كما بيّن البحث أن موقف ابن حزم الجدلي ليس متطابقا دائما مع موقفه الإنساني، فمع مناظريه أظهر حدة في التعبير، وقسوة في النقد، وتماديا في سوء الظن، ورغبة في تصعيد الجدل، وميلا إلى المغامرة الكلامية، وغلب عنده إضمار مواطن التلاقي والاتفاق وإظهار دلائل التباين والافتراق، ولكنه أظهر تسامحا مع المجتمعات الدينية، وبسط للعامة مداخل العذر، وأبدى ثقة بهم ورغبة في التفاهم انطلاقا من افتراض الصواب وحسن النية بين المتخالفين.